أدهشت صور انفاق أثرية عملاقة يمنية يعود خرقها في اصل الجبال إلى ما قبل الميلاد؛ خبراء الآثار حول العالم، لحجمها الكبير ودقة نحتها يدويا لتخترق جبلين. معتبرين أنها من اكثر الاثار الانسانية اثارة للدهشة وتجسيدا للدقة والابداع و”القوة والبأس اليماني”.
وتظهر صور مذهلة، براعة اليمنيين القدماء في هندسة حصاد مياه الامطار ومنشآت الري، وجسارتهم في تشييد المنشآت المائية الخاصة بجمع وتخزين وتحويل وتصريف مياه الامطار وسيولها، على نحو يبدع في حصاد كل قطرة مطر واستغلالها، في تشييد حضارتهم.
الصور التي تداولها ناشطون على منصات التواصل الاجتماعي، لنفقي بينون، في عزلة ثوبان بمديرية الحدأ محافظة ذمار، ويعود شقهما ونحتهما إلى عهد الدولة اليمنية السبئية (تبابعة سبأ)، وتحديدا إلى الفترة من القرن التاسع قبل الميلاد وحتى القرن الرابع الميلادي.
تُصنف بينون واحدة من أهم المدن والحواضر الاثرية القديمة، وتقع على بعد 54 كم عن مدينة ذمار (جنوبي العاصمة صنعاء)، وتتصدر اثارها العظيمة، اطلال قصر شهران، وانفاقها المائية، كشواهد قهر اليمنيين تضاريسهم التي تفتقد لانهار او بحيرات مياه عذبة.
وينقل المؤرخ الهمداني عن اسعد الكامل قوله شعرا: “وبينون مبهومة بالحديد * ملازبها الساج والعرعر/ وشهران قصر بناه الذي * بناه بينون قد يشهر”. بينما ينقل عن علقمة بن ذي جدن قوله: “واسال بينون وحيطانها * قد نطّقت بالدر والجوهر”. (الاكليل 8).
وحسب خبراء الاثار والمؤرخين، فإنه جرى نقر النفقين بآلات حادة في أصل كل من جبل النقوب وجبل بينون لتحويل مياه سيول الامطار. حيث “تأتي المياه من وراء جبل النقوب عبر النفق إلى وادي الجلاهم لتجري إلى النفق الآخر عبر جبل بينون باتجاه وادي نمارة”.
ليس هذا فحسب، فالنفقين على عظمتهما، جزء من منظومة مائية تتسم هندستها بحسابات دقيقة “وحالما تغادر النفق تجتمع في سد يقع في أعلى وادي نمارة الذي تمتد أراضيه الخصبة مساحات شاسعة”. حسب مؤلف كتاب “اليمن.. الظواهر الطبيعية والمعالم الآثرية”، محمد الشعيبي.
يضيف الشعيبي بأن النفقين “قد نحتا على شكل أغوار طويلة وعميقة في أصل الجبل على شكل قنطره هدفها تنظيم مجرى تدفق سيول الأمطار إلى أراضي الوديان الزراعية في ضاحية مدينة بينون القديمة بحيث تشمل هذه المياه كل من وادي الجلاهم في شرق الضاحية ووادي نمارة في غربها”.
مضيفا: “فكان نفق النقوب يقوم بمهمة تصريف المياه في وادي الجلاهم فيقوم بدور القنطرة المائية التي تجري عبر قنوات نحو نفق بينون بمقاييس هندسية غاية في الدقة والإعجاز الحضاري الحميري، وبحاجة لدراسة علمية وفنية من علماء الري، ليتم كشف القناع عن معجزة الإبداع الحضاري اليمني”.
لكن انكسارات حدثت في جبل بينون بقرية النصلة، تسببت في انسداد مدخل النفق المنقور في اصله ومخرجه بأكوام من الحجارة والتراب. أما النفق الاخر في جبل النقوب المقابل لجبل بينون من الناحية الشرقية فما يزال مفتوحا، “بطول 150 متر وعرض 3 امتار وبارتفاع 4.5 امتار، ويبلغ طول القطع من الخارج 18 مترا”.
وتُلاحظ داخل نفق جبل النقوب بوادي الجلاهم “فتحات جانبية يعتقد أنها عملت لتثبت فيها ألواح أو أحجار لتنظيم سرعة تدفق السيول وتحفيف إندفاع المياه”. ما داعا المؤرخ والفلكي والجغرافي الشهير الحسن بن احمد الهمداني في في مؤلفه الشهير “صفة جزيرة العرب” إلى اعتبار النفقين “من العجائب التي ليس في بلد مثلها”.
كما تسبق نفق النقوب المفتوح “قناة كبيرة منقورة في الصخر ومدعمة بجدران شيدت بأحجار ضخمة مهمتها إيصال المياه إلى مدخل النفق، لتسير داخله بشكل مستقيم حتى منتصف النفق ثم تنحرف يميناً عدة أمتار وبعدها تنحرف يساراً وتسير بشكل مستقيم حتى نهاية النفق لتصب في قناة تمتد حوالي كيلو متر لتصل إلى النفق الثاني”.
ويوجد في مدخل نفق بينون نقشان بخط المسند، قلم اليمن التاريخي، أحدهما مطموس والأخر يمكن قراءة معظمه بما يفيد أن “أحدهم واسمه “لحيعثت بن زعيم” دَوَّن نذراً إلى معبوده (عثتر) بمناسبة افتتاح النفق. إلا أن أهم النقوش التي عُثر عليها في مدينة بينون تذكر اسم شمر يهرعش ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات”.
حسب الباحث في التاريخ والاثار، محمد الشعيبي، فقد “جاء في النقش ذكر سنة البناء بالتقويم الحميري المعروف وهي 420، وتوافق هذه السنة بالتقويم الميلادي حوالي 305م”. لكن المؤرخ والمحقق التاريخي العالم الراحل محمد حسين الفرح، يصحح للشعيبي خطأ في فهم التأريخ المدون في النقش، بأنه بعداد التقويم الحميري.
يقول الفرح في المجلد الاول من كتابه “الجديد في تاريخ دولة وحضارة سبأ” إنه: جاء في النقش نفسه ذكر سنة البناء وهي 420 وقد تكون أكثر من عشرين او أقل من ثلاثين بسبب التلف الذي أصاب الرقم، ..”. مضيفا: “يعتقد البعض ان هذا التاريخ هو بالميلادي او بالحميري وذلك خطأ، فهذا الاعتقاد يقتل من تاريخ اليمن وتاريخ بينون اكثر من 1100 سنة”.
وينوه بأن “فهذا التاريخ هو بالتقويم السبئي الذي بدأ في العام 1220 قبل الميلاد وذلك في عهد تبع الرائش باران ذو رياش ملك سبا ملك ملوك الارض الذي اعتبر بداية عهده بداية للتقويم السبئي المؤرخ به نقوش ملوك سبأ التبابعه، وكان قبل التقويم الحميري باكثر من 1100 سنة، لو قارنا هذا التاريخ سنجده قريب من ايام حكم الملك شمر يرعش”.
موضحا أن “الملك شمر يرعش كان اخر ايام حكمه سنة 410 بالسبئي ويقابله سنة 810 قبل الميلاد، وهو باني قصور وابراج مدينة هكر في بلاد عنس شرق مدينة ذمار، ثم أتى بعده الملك ياسر يهنعم الثاني وانتهى عهده في عام 420 بالسبئي 800 قبل الميلاد، ثم الملك ذمر علي يهبر وهو صاحب التمثال البرونزي المشهور” بمتحف صنعاء.
وفي حين يفيد بأن عهد الملك ذمار علي “انتهى عهده عام 433 سبئي 787 قبل الميلاد”. يشير إلى أنه “أتى بعده ابنه الملك ثاران ينعم وهو ايضا صاحب التمثال البرونزي المشهور وانتهى عهده عام 473 بالسبئي 747 قبل الميلاد”. لافتا إلى موقع العثور على هذين التمثالين البرونزيين الضخمين للملكين ذمار علي ونجله ثاران ينعم.
منوها بأن تمثالي الملكين ذمار علي يهبر ونجله ثاران ينعم تم العثور عليهما اثناء عملية حفر لبعض الاهالي بالصدفة في منطقة النخلة الحمراء القريبة من موقع مدينة بينون، وغالب الظن ان التمثالين كانا منصوبين في بينون أو في الطريق المؤدية الى مدينة بينون والتي شهدت اعمالا عمرانية واسعة واعمال شق للطرقات في عهد الملكين”.
يُعد النفقان اللذان جرى بنائهما بدقة وعناية وفقًا لمعايير هندسية دقيقة إلى جانب التقنية الإبداعية، بمثابة أبرز الأعمال الهندسية المائية في جنوب منطقة شبه الجزيرة العربية، حيث يشغلان المرتبة الثانية عقب سد مأرب (العرم)، الذي تعده البعثة العلمية من معهد برلين للاثار “اقدم وأكبر المنشآت المائية والسدود في التاريخ على مستوى العالم”.
وقد ذكر الشيخ علي بن محمد القوسي بأنه “يوجد نفق أخر يسمى نفق حطمة في قرية الحاجب قد يساوي نفق بينون في طوله، وطوله يصل إلى 200 متر تقريباً وارتفاعه 4 أمتار تقريباً، ويستخدم في تنظيم السيول لري المزروعات وهو الآن مفتوح من الجهة الغربية أما الجهة الشرقية فقد تساقطت عليها أحجار من الجبل وتكاد تكون مغلقة”.
كذلك جاء في كتاب “نتائج المسح السياحي” الحديث عن نفق مائي أكبر، وأنه “عند أسفل مرتفع الضليعية يوجد نفق كبير منحوت بآلات حادة طوله 260 مترا، يربط بين وادي غربي المرتفع ووادي غول، ويتراوح ارتفاع هذا النفق ما بين (7 – 10 أمتار) وعرضه ما بين (2,40 – 2.60 متر)، وعند فتحته الغربية دكات عريضة في الأعلى.
مضيفا: “وأمامها (الدكات العريضة لفتحة النفق الغربية) في الوادي زيادة تراكمات من أحجار كبيرة وصخور جيرية ربما كانت تشكل حاجزاً لتصريف المياه الفائضة عن استيعاب الوادي عبر النفق المذكور إلى وادي غول لوبار في الجانب الثاني من المرتفع عن طريق منفذين يشكلان الفتحة الشرقية للنفق، وهما مغلقان بأنقاض من الأحجار الكبيرة”.
وخلص المسح السياحي إلى أن “مثل هذه الأنفاق العملاقة والمقطوعة لمسافات طويلة تحت المرتفعات الصخرية بطريقة النقر تدل على مدى العزم والتصميم لدى اليمنيين القدماء.” متفقا مع ما خلصت إليه اعمال تنقيب البعثة الالمانية في مواقع عدة من اليمن، بأن “المنشآت الهندسية لحصاد مياه الامطار وتصريفها تشهد لليمنيين بالريادة” بهذا المجال.
في هذا السياق، كان الباحث في شؤون التاريخ والآثار ابراهيم يحيى الحكيم، وقف على دراسات لمعهد برلين للآثار، تشير إلى أن “براعة الانسان اليمني في التعدين والكواكب وحساب الوقت، قادته إلى تحين اوقات بعينها لتنفيذ مثل هذه الاعمال الهندسية ونحت الصخور، لعلمه المبكر بأن المعادن (بهذه الصخور) تلين وتتمدد في الصيف وتتصلب في الشتاء”.
وتبقى المنشآت الهندسية المائية في الحضارة اليمنية، والتي حصرتها البعثة الالمانية بحدود 16 منشآة مائية رئيسة، من اهم شواهد الحضارة اليمنية القديمة، التي سرعان ما انتقلت وراجت في حضارات انسانية عدة، تجاوزت منطقة شبه الجزيرة العربية إلى انحاء واسعة من قارات اسيا وافريقيا واوروبا، وفقا للدراسات العلمية الآثارية الالمانية المتخصصة بهندسة المياه.
نقلاً عن : الاول برس